يتميز هذا العصر بالتقدم السريع والتطور المستمر في المعرفة والمعلومات ووسائل الاتصال بكافة أنواعها، ممّا أدى ذلك إلى نشأة المجتمعات المفتوحة وأصبح العالم كقرية صغيرة، فجعل من الصعب على أي دولة أن تعيش بمعزل عمّا يحدث في العالم مهما كانت قوتها البشرية والسياسية والاقتصادية، لأن العلاقات أيضًا صارت متشابكة بين الشعوب، والمصالح باتت مترابطة.
فالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم تواجهها تحديات كبيرة كالغزو الثقافي والفكري الذى يسعى إلى طمس الهُوية، بالإضافة إلى العولمة وانتشار الفضائيات ووسائل الإعلام والأنترنت والانفتاح الشديد على الغرب، كلّ هذا أدى إلى تغلغل الاتجاهات الفكرية في مجتمعاتنا الإسلامية فتضاربت الأفكار والآراء.
إنّ الأمن الفكري يمثّل ركيزة أساسية لكونه يتعلق بعقول أبناء المجتمع وفكرهم وثقافتهم، بل يمثّل طريقًا لتحقيق الأمن بمفهومه الشامل، ومن ثم أصبحت الحاجة ماسّة إليه لأنّه يحقق للمجتمع تماسكه وذاتيته، وذلك بتحقيق الوحدة في المنهج والفكر والغاية، كما أنّ تحقيق الأمن الفكري هو المدخل للإبداع والتطوّر والنّمو لحضارة المجتمع وثقافته؛ وعليه، فإنّ تحقيقه حماية للمجتمع عمومًا والشباب خصوصًا ووقاية لهم، ممّا يرد عليهم من أفكار دخيلة تشتت توجهاتهم وتسطح أفكارهم وتدفع نحو إحداث تغييرات علمية متضاربة تنعكس بدورها على المجتمعات الإنسانية ككل.
وتُعد المرحلة الجامعيّة مرحلة حاسمة ومصيرية حيث تتحدّد من خلالها حياة الشباب وأهدافهم، وبالتالي، فإنّ المؤسّسة الجامعيّة تتحمّل عبئًا كبيرًا في توجيه الشّباب وتعديل أفكارهم وسلامة معتقداتهم لأنّها تمثّل عقل المجتمع وقلبه النّابض بمشكلاته وحاجاته، ممّا يتطلب إعطاء الأمن الفكريّ أهميّة قصوى من حيث ترسيخ مفهومه وأهميته، ومواجهة التّحديات بفكر مستنير، وذلك من خلال المناهج والمقررات والأنشطة التي تساعد على تنمية الأمن الفكري وغرس الروح الوطنية والقومية وتدعيمها، وتعليمهم كيف يتعاملون بفكر واعٍ مع قضايا الواقع الحالي بما يعتريه من تغيرات، ويشير الواقع الحالي إلى تنامي الظواهر الفكرية بين الشباب وزيادة التّحولات الاقتصادية والثقافية، ومن ثم أصبح الاهتمام بالأمن الفكري أكثر إلحاحًا من ذي قبل، نتيجة لما تتعرض له المجتمعات من تخلّف وتهديدات وأخطار فكرية تؤثر على المجتمع ومكوناته العقدية والثقافية. ويعدّ الأمن الفكري جزءًا رئيسًا من الأمن الشامل بمفهومه العام، وما انتشار ظاهرة الإرهاب والتطرف في العالم اليوم إلا دليل على ضعف الأمن الفكري، كما أنّ تعزيز الأمن الفكري في المجتمعات الغربية تعتمد بشكل كبير على قدرة المجتمع والقائمين على تحقيق الأمن الفكري في التصدي للاتجاهات السلبيّة والفكريّة وعلى تحصين الشباب بالأفكار الصالحة التي تجعلهم يتعايشون مع محيطهم الذي يعيشون فيه بأمان واطمئنان.
أهمية الأمن الفكري ومشروعيته في الإسلام:
انطلاقًا من أنّ الأمن الفكري ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقل، فإنّ العقل من القضايا التي كرم الله بها خلقه من بني البشر عن سائر المخلوقات. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]. ومن أوجه تكريم الله عز وجلّ لبني البشر إرسال الرسل وإنزال الكتب. وأنعم عليهم النعم لإعمار الأرض والاستقرار عليها بأمن وطمأنينة، فالأمن الفكري القائم على أسس ومبادئ إسلامية ذو أهمية كبيرة، ومن نتائجه وحدة الاعتقاد والفكر والسلوك والتزام الاعتدال والوسطية .قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا﴾ [إبراهيم: من الآية 35]، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: الآيات 3 – 4]، فالأمن الفكري يمثّل أحد أهم جوانب الأمن الوطني لأنّه معني بالحفاظ على الذاتية والهُوية، فسلامة الفكر والعقل من الضّرورات الخمس التي أكّد الإسلام على رعايتها وحفظها، والتي تتضمن العقل والدين والمال والنفس والعرض، فثمة ترابط بين الأمن بمعناه الشّامل وحفظ هذه الضّرورات، فأمن الناس لا يكون إلا باستقامة الحياة في جوانبها الضّرورية، والاضطراب الأمني ما هو إلا نتيجة الإخلال بحفظها، لذا، فالأمر يتطلّب التّدخل الوقائي من قِبل المؤسسات التّربويّة لتبصير النشء المسلم بما هو مطلوب منهم في هذا العصر من إيجاد جيل قادر فعال ذي همة عالية.
فأهمية الأمن الفكري تنبع من تبوئه مرتبة متقدمة من بين أنواع الأمن وصوره الأخرى وعلاقته الوظيفية بها، فإذا توافرت الحماية للعقل الإنساني أدّى ذلك إلى حماية حفظ الأمن والنظام العام وتسود الطمأنينة والاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها من مقومات الأمن القومي، ولا يمكن للفرد أن يتصوّر مدى أهمية الأمن الفكري، وما يترتب على تحقيقه من إيجابيات إلا بتأمل الأضرار المترتبة على فقدانه وإدراكها، ولعلّ ما يحدث من جرائم إرهابيّة في كثير من دول العالم ما هي إلّا نتيجة لانتشار الأفكار المنحرفة التي يغذيها الغلو والتطرف.
متطلبات تحقيق الأمن الفكري:
يُعدّ تحصين الشباب من التّحديّات الفكريّة التي أصبحت منتشرة وبشكل كبير نتيجة الانفتاح والآلية المعلوماتية التي سهلت على أصحاب الفكر الضال الوصول إلى عقول الشباب وفكرهم، واستدراجهم تحت مسميات ودعاوى مذهبية خارجة عن نطاق العقول السوية، وأصبحت هذه الحقيقة مدعاة للاهتمام والتوعية للشباب والجيل الصاعد الذين هم أمل المستقبل وقادته، وذلك عن طريق غرس الأمن الفكري وتعزيزه لديهم لمواجهة التغيرات الفكرية والثقافية المتسارعة التي ينتابها الشباب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لذا، يجب الإدراك الواعي والفهم الصحيح للخطر الذي يهدد فكر الشباب، الأمر الذي يتطلّب المواجهة بكلّ حزم من خلال الحفاظ على المكوّنات الثقافيّة الأصليّة للتصدي للتيارات الوافدة، وحماية الهوية الثقافية من الاختراق والاحتواء من الخارج.
مستلزمات تحقيق الأمن الفكري:
- الوسطية والاعتدال: هي نشر الفكر الوسطي المعتدل بين الشباب والتي هي أساس الفكر السليم والعمل من منطور علمي مبني على الأدلة والبراهين.
- إكساب صفات المواطنة الصالحة وقبول الآخر: وتعني احترام الآخر واستيعاب أفكاره وعدم التفرقة في المعاملة والتهيئة للممارسة الديمقراطية الحقيقية للشباب.
- نشر ثقافة الحوار الرشيد: وهي إتاحة الفرصة للشباب للحوار وتقويم الاعوجاج الفكري بالإقناع والحجة والدليل.
- الحفاظ على الهوية الوطنية: وذلك من خلال معرفة مهددات الهوية الوطنية وإدراكها التي تشكل خطرًا عليهم، والتّصدي لها من كافة المؤسسات المجتمعية.
- تحمل المسؤولية: وتعني حثّ الشّباب على ضرورة تحمل المسؤولية سواء تجاه الجماعات التي ينتمون إليها أو تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه.
- نشر ثقافة التسامح: إكساب الشباب وتنشئتهم على ممارسة قيمة التسامح وإنكار الذات والاحترام المتبادل للآخرين.
ممّا يلزم جميع المؤسسات الدّينية والتّربوية والثقافية غرس مبدأ الوسطية وتبنيه منهجًا لها وإيجاد الآلية المناسبة للرقابة على مدى الالتزام بذلك، واستمرار العمل على معالجة الأفكار المتطرفة وفق خطط مستقبلية وبرامج توعية تؤدي إلى تحقيق الأمن الفكري لجميع أفراد المجتمع.
ا.د هالة مختار الجيوشي الوحش
أستاذ دكتور( بروفيسور) أصول التربية – جامعة الأزهر . إدارة وتخطيط تربوي
محكم بحوث دولى معتمد في الأكاديمية الأمريكية الدولية للتعليم العالى والتدريب
مدرب دولى معتمدTOTA في الأكاديمية الأمريكية الدولية للتعليم العالى والتدريب
محكم بحوث بالمجلة التربوية بكلية التربية في جامعة سوهاج
رئيس قسم التربية ( تخصص العلوم التربوية) الأكاديمية الأمريكية الدولية للتعليم العالى والتدريب- بولاية ديلايور الأمريكية- فرع بغداد
عضو اللجنة العلمية الخاصة بالمؤتمر العلمى الدولى الثالث عشر الذى تقيمه الجمعية الأمريكية الدولية للتعليم العالى والتدريب
تم نشر اكثر من 17 ورقة بحثية بمجلات عربية وإقليمية
حاصله على اكثر من 150 دورة تدريبية بالمجالات التربوية المختلفة
شاركت بتنفيذ اكثر من 35 دورة تدريبية وورش غمل بالمجالات التربوية المتنوعة
حاصلة على درع أفضل شخصية أكاديمية متميزة للعام 2023 من الأكاديمية الأمريكية الدولية للتعليم العالي والتدريب.