سباق التسلّح النووي: تهديد مصيري أم انعكاس لبنية النظام الدولي؟ 

سباق التسلّح النووي: تهديد مصيري أم انعكاس لبنية النظام الدولي؟ 

شهد العالم في العقود الأخيرة تصاعدًا في الجهود الرامية إلى الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، وذلك نتيجة المخاوف المتزايدة من التداعيات الكارثيّة المحتملة في حال استخدامها. وقد تركّزت هذه المخاوف لدى الدول الغربيّة على إمكانيّة استخدام هذا النوع من الأسلحة من قِبل دول أخرى تُوصف بأنها “غير مستقرة”، مع افتراض أن اتخاذ القرار باستخدام السلاح النووي قد لا يخضع لدى هذه الدول لمعايير عقلانيّة دقيقة. إلا أن الدراسات والتّحليلات المتخصّصة تشير إلى أن الخطر الأكبر لا يكمن في “الجهة” التي تضغط على الزرّ، بل في طبيعة هذه الأسلحة ذاتها، وفي السياقات الجيوسياسيّة التي تولّد سباقات التسلّح.

وأمام هذا المشهد المعقّد الذي يشكّله سباق التسلّح النووي، يبرز تساؤل جوهريّ: هل يمكن للنظام الدولي الراهن، بكل تناقضاته ومصالحه المتشابكة، أن ينجح في احتواء المخاطر النوويّة؟ أم أن هذا السّباق محكوم بمنطق يصعب كبح جماحه، بما يحمله من تهديدات مصيريّة لمستقبل البشريّة؟

على الرغم من أن احتماليّة اندلاع حرب نوويّة شاملة تُعدّ منخفضة حاليًّا، فإن القلق العالمي يتركّز على النتائج المترتّبة على استخدام الأسلحة النوويّة، حتى وإن كان بشكل محدود. فالأسلحة الحديثة تتمتع بقدرة تدميرية هائلة، حيث يمكن لقنبلة نوويّة واحدة أن تقضي على مدينة كاملة وسكانها، وتترك آثارًا بيئية وصحية تستمر لعقود، مثل التلوث الإشعاعي، وتدمير النظم البيئية، ناهيك عن الأثر الاجتماعي والنفسي طويل الأمد.

تشير التقديرات إلى وجود ما يقارب خمسين ألف رأس نووي في الترسانات العالمية، موزعة بين القوى الكبرى وبعض الدول النامية. تمتلك هذه الرؤوس القدرة على إصابة أي نقطة على سطح الأرض خلال دقائق، مما يجعل أي صراع نووي كارثيًّا ليس فقط على أطراف النزاع، بل على البشرية جمعاء. وتشمل التداعيات المحتملة زيادة حالات السرطان، التشوهات الخلقية، والأوبئة الناتجة عن التلوث الإشعاعي للغلاف الجوي والمياه والتربة.

إن التهديد النووي لا يمس الجانب العسكري فحسب، بل يتعداه إلى تهديد النظم البيئية والموارد الطبيعية، ما يضع مستقبل الحياة على الأرض في دائرة الخطر. بناءً عليه، ظهرت دعوات من قبل علماء، سياسيين، ومفكرين عالميين بضرورة التوقف عن سباق التسلّح، والتوجه نحو سياسات دولية تضمن نزع السلاح التدريجي، وتكريس مبدأ الأمن الجماعي، والتعاون من أجل التنمية والسلام. كما تبدو الحاجة ملحّة إلى تبنّي سياسة عالمية توازن بين الأمن والاستدامة، تضع في أولويّاتها حماية الإنسان والبيئة. ويُعدّ التزام القوى الكبرى بتقليص ترساناتها النووية خطوة ضرورية لإرساء بيئة دولية خالية من الخوف النووي، وضمان مستقبل أكثر استقرارًا للبشرية.

وعلى الرغم من قتامة الصورة الراهنة، فإن الأمل لا يزال قائمًا في إمكانية إعادة صياغة العلاقات الدولية على أسس جديدة، تضع الأمن الإنساني فوق اعتبارات القوة والنفوذ، وتؤسّس لعصر تُستبدل فيه استراتيجيات الردع النووي بثقافة السلام والتعاون المشترك من أجل إنقاذ الكوكب.

بناءً عليه، يظهر أن سباق التسلّح النووي ليس ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس لبنية النظام الدولي المعاصر وتوازناته الهشّة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة عبر الاتفاقيات والمعاهدات للحدّ من انتشار السلاح النووي، إلا أن الواقع يكشف عن محدودية هذه المبادرات أمام إصرار الدول على تعزيز قوتها الرادعة. ومع ذلك، فإن الحاجة إلى إعادة صياغة قواعد التعامل الدولي تبدو أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، عبر تبنّي مقاربة جديدة ترتكز على التعاون المشترك، والالتزام الجاد بالحد من التسلّح، وتعزيز ثقافة السلام. ربّما يكون في هذا التحوّل سبيل لإنقاذ العالم من الانزلاق نحو هاوية الفناء النووي، لبناء نظام عالمي أكثر عدلاً وأمنًا للبشرية جمعاء.

وهنا يبرز التساؤل: هل سيتحلّى قادة العالم بالشجاعة الكافية لكسر دائرة التصعيد النووي؟ أم أن سباق التسلّح سيظل قدرًا محتومًا يهدّد بقاء الإنسانية؟

الدكتورة ملاك حاتم الطفيلي

أكاديميّة لبنانيّة متخصّصة في اللّغة العربيّة وآدابها

حاصلة على درجة الدكتوراه من الجامعة اللّبنانيّة. تتناول أطروحتها موضوع “المأسويّة في الرواية الحديثة”

أستاذة متعاقدة في الجامعة اللّبنانيّة، وفي الجامعة الإساميّة

منسق عام للغة العربيّة في ثانويّة الأهليّة

شاركت في لجان التحكيم الأكاديميّة، مثل لجنة التحكيم في مجلّة الضّاد الدوليّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة .

بالإضافة إلى عملها الأكاديمي، تسهم في الكتابة والنشر، حيث نشرت مقالاتٍ متعددة.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *