المرأة في التصور القرآني: تكريم أم تصحيح لوضعها الإنساني المأزوم – د. رشيد ازلوف -المغرب

المرأة في التصور القرآني

تكريم أم تصحيح لوضعها الإنساني المأزوم

بقلم الدكتور رشيد ازلوف – جامعة القاضي عياض، المغرب.

تقديم:

قلّما تمر بنا مناسبة من مناسبات قضايا المرأة وشؤونها من غير أن يثار حولها نقاش حاد، تطبعه في غالبية الأحيان علاقة جدلية بين اتجاهات متنافرة يمكن اختزالها في اتجاهين عريضين؛ اتجاه ذو نزعة إسلامية يُرجِع كلّ فضيلة من فضائل المرأة إلى التعاليم المبثوثة في نصوص القرآن والسنة، مقارنا ذلك ببعض المواقف المسيئة للمرأة في بعض الأمم والثقافات، قصد إبراز مدى احتضان الإسلام واهتمامه بالمرأة كإنسان. واتّجاهٌ آخر يُخرج كل الاعتبارات الإسلامية أو الدينية من العلاقات المدَنية، ويعدّ نصوص القرآن أو الإسلام، من الروافد التي أسهمت في خلق معاناة المرأة واستفحال مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية وغيرها.

والحق أن الاتجاهين معًا قد عَدلَا عن الصواب في فهم النصوص المتعلقة بالمرأة، لاسيما النصوص القرآنية، وعَدلا أيضًا عن الكيفية الناجعة في الدفاع عنها وعن كيفية التعامل مع مشاكلها المتجذرة، إنْ فيما مضى من الأيام وراحت في خبر كان، أو  فيما يستجد منها في الوقت الراهن، حتى أصبحت المرأة بذلك السّجال الكلامي بين الاتّجاهين بمثابة شبه مواضيع مكرورة لا فائدة ترجى من إثارتها.

وكلّ ما في الأمر، أنّ أحد الاتجاهين يدّعي تكريمَ القرآن للمرأة وتحريرَها من العبودية والقهر  والظلم… ويدعي الآخر أن المرأة نُبذت في القرآن، وسُلبت حريتها، وضُيّعت حقوقها، ولم تلق ما تنعم به من الحرية والأمان إلا في ظل البنود البشرية والجمعيات الحقوقية؛ وكلا الطرفين على هامش الصواب في الموضوع؛ لأن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: هل المرأة خُلقت مُهانة في أصلها ولم تذق طعم الكرامة الإنسانية إلا بعد مجيء القرآن؟ أم أنها خُلقت مُكرّمة ثم نِيل من كرامتها بالعنف والظلم والاحتقار .. فجاء القرآن ليصحح هذا المسار ويعيدها إلى وضعها الأصلي؟

ولتصحيح سوء فهم هذا الموضوع وفكّ غُمم أسئلته المطروحة، ستحاول الورقة مقاربته من خلال ثلاثة محاور أساسية: أولًا؛ مبدأ التوحيد، ثانيًا؛ مبدأ الإنسانية أو البعد الإنساني في التصور القرآني، ثالثًا؛ المرأة في القرآن بين التكريم والتصحيح لوضعها المأزوم.

المحور الأوّل: مبدأ التوحيد.

لا نرمي من خلال هذا المبدأ إلى الخوض في تفاصيل ما قد يتبادر إلى الذهن  من بيان معنى التوحيد في اللغة والاصطلاح الشرعي، أو التفريق بينه وبين الشرك، أو الأخذ في تفريعات كل منهما، وإنما نرمي إلى بيان كيفية استخدام القرآن الكريم لهذا المبدأ، من أجل بطلان كل معايير التصنيف والتمايز بين بني البشر؛ ذكورهم وإناثهم. لكن هل هذا المبدأ -وحده- كفيل لنبذ كل معايير التمييز والتفاضل بين البشر؟

في البداية نعم؛ لأن هذا المبدأ يُضمر في عُمقه دعوةً إلى التحرر من قيود الكثرة والتعدد التي تستعبد البشر وتستبلده أشد استبلاد، لاسيما لما يتعلق هذا الاستعباد والاستغلال بالعقل والفكر والمعتقد، الأمر الذي يجعل الإنسان بلا هُوية ولا وجهة، فتضيع حياته كلها في محاولة إرضاء غيره، ولهذا كانت أُولى اهتمامات الرسالة السماوية تتجه بالأساس إلى تحرير عقل الإنسان من سيطرة الآخر وعدوانه.

ومن ثَمََ عُدّ مبدأ التوحيد جوهرَ الرسالة النبوية وقلبَ النص القرآني؛ لأن الإنسان بمجرد ما يرفض تأليه أي شيء إلا الله وحده لا شريك له، يكون بذلك قد تشبث بالمبدأ الذي يتطابق مع التصور الفعلي لتحريره، عقيدة، وفكرا، وتوحيدا؛ ذلك أن تعدد الأسياد والأرباب أو الآلهة في نظر الإنسان، هو تعدد لوجهة الإمداد الروحي والنفسي لديه.

وهذا الاعتقاد، لا يليق بالإنسان ولا بأصله الذي ينتسب إليه، بل فيه إهانة عظمى لآدم عليه السلام الذي أُسْجِدت له الملائكةُ أجمعون، وهم عباد مكرمون ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ . عباد مكرمون سجدوا لآدم عليه السلام “الذي جُعل خليفة في الأرض وسيّدا على ما سواه”. إذن فمبدأ التوحيد وعبادةِ الإنسان لله وحده، “هو أكبر مظهر لتكريم بني آدم، وعكسه هو أكبر إهانة له، ففي التكريم تزكية وتطهير، وفي الإهانة لؤم وتدنيس”، فلم يكن هذا التكريم الخاص بتحرير الإنسان -من طمس الفكر وتعدد المعتقد- منحصرا على الرجال وحدهم، وإنما كان يشمل جنس الرجال وجنس النساء على السواء.

والدليل على ذلك، أنه لم يأت أول نداء إلهي للبشرية في القرآن بأمر العبادة بما يفيد أي تمييز عنصري ممكن؛ بل جاء مخاطبا الجميع بصيغة الاشتراك والعموم قائلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾، ولفظ الناس عبارة عن اسمِ جَمْعٍ لما يَعقِل ويأنس ويستوحش ويَأْلف، وهي سمات مشتركة بين الرجال والنساء، ولا يختلف فيها أحدهما عن الآخر من حيث الاتصافُ والإدراك والإحساس، فدل هذا الخطاب على أن الإنسان من حيث الأصل هو كتلة واحدة، لا فرق بين جِنسيْه ولا فصل إلا لغرض التكاثر والتعاون والتكامل، ولا أدلّ على  هذا المعنى من توحيد الناس في الخطاب دون مَيز، سواء في التسمية أو في الأمر بالعبادة أو في الخالق الذي خلقهم.

وقد تكررت مناداة الله لخلقه في القرآن بلفظ الناس في أكثر من موضع، إشارة منه سبحانه وتعالى إلى استغراق خطابه لكل من يَصحّ أن تطلق عليه كلمة إنسان، وبدلالة هذا الاستغراق، يحمل الجميع على تلقي مضامين خطاب الله من غير استثناء؛ إذ الكل مدعو إلى الاستجابة لنداء الله، إما بالترك أو الفعل، ولهذا لم يرد في القرآن الكريم ما يدل على ضرورة تقديم الرجل على المرأة في تلقي شرع الله وعبادته؛ بل الأمر بينهما سيان،  لا تتحقق فيه الأفضلية إلا للمُمْتثل الأتقى، والمتسابق إلى الجزاء الأوفى؛ ذكرا كان أو أنثى.

وقد لا يكون أيّ اعتبار لا للمرأة ولا للرجل في نظر القرآن، وذلك حين ينحلّ عقد ذلك المبدأ التوحيدي الذي أُخِذ من أرواح بني آدم يوم خلقها الله فأقرّت بوحدانيته وامتثلت لقوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾، فساعة ينحل هذا العقد وينزاح الجميع عن إطاره المطلوب، ويبتعد عن الوظيفة التي وُجد لأجلها، وهي عبادة الله والإبقاء على وحدانيته، فإن القرآن لا يأبه بقدر هذا الإنسان ولو كان نبيا، بدليل قول ربنا: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. فدل هذا الخطاب على أن قيمة المرأة والرجل، لا تتحدد إلا في ضوء الحفاظ على هذا المبدأ التوحيدي المفضي بالضرورة إلى عبودية الله، إيذانا بتحرير هذا الجنس من كل القيود، ورغبة في توحيد وجهة التلقي والعون والإمداد له؛ إذ لم يكن الله عز وجل يقدّم الرجل على المرأة في هذا الأمر؛ بل كان الخطاب يأتي بصيغة الجمع (مثل آمِنوا بالله، اعبدوا، لا تشركوا، سابقوا…،) حتى يحتوي الجميع، فتكون الفضلى لمن وعى الخطاب أوّلاً وبادر إلى امتثاله قولا وفعلا، استجابة لوقع هذا التحفيز والتشويق الوارد في قوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، واغتناما لما في هذا السبق من الخير العميم والفضل المتاح لأي إنسان.

ولما وحّد القرآن مبدأ التوحيد الذي يتساوى فيه الرجل والمرأة، انتقل إلى بيان علة هذه التسوية ومنطقها، وهي أن الجميع يرجع إلى أصل واحد، وأنّ أيَّ خلل في المنظومة الفكرية والاجتماعية إنما هو ناتج عن خلل في المبدأ التوحيدي. فما هو هذا الأصل الذي يتحدث عنه القرآن؟ وكيف عُدَّ مبدأً ثانيا لإبراز مدى تماثل المرأة بالرجل في الإنسانية والكرامة والحقوق وغيرها من الخصائص المشتركة بينهما كإنسان؟

المحور الثاني: مبدأ الإنسانية/البعد الإنساني في التصور القرآني

فالإنسان أو البشر أو بنو آدم حاضر بقوة في الخطاب القرآني ويشمل الرجال والنساء في إنسانيتهم وروحانيتهم؛ ويعد جوهر وغاية الخلق الذي ينبثق من أصل واحد، وهذا الأصل سماه القرآن الكريم بـ”النَّفْس الواحدة“، وفيه ما يُدلِّلُ عن المساواة في الخلق بين النساء والرجال، إلا فيما اختص به كل جنس عن الآخر مما خصه به شرعنا المُطهّر.

وفي هذا الشأن يقول ربنا عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وفي موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾. ويقول أيضا: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾. وقد علّق ابن عاشور (ت1393ه) عن قَوْله سبحانه: بعضُكم مِنْ بعضٍ فقال: “(مِنْ) فيه اتّصاليّة.. وهي كلمة تقولها العربُ بمعنى أنّ شأنَهم واحدٌ وأمرَهم سواءٌ”.

ولذلك، فإن المتأمل في هذه الآيات وفي غيرها من الآيات التي تعالج الموضوع نفسه، لن يجد فيها ما ينبئ على جلالة قدر الرجل على حساب المرأة، أو وَضَاعةِ أصل المرأة وسموِّ أصل الرجل، بل هما سيان في الأصل والمصدر، وهذا الأصل لا محالة مُكرَّم ومُبجَّل ومُعظّم.

ومن هنا جاء تصحيح المسار الاجتماعي المعوجّ في التعامل مع المرأة من خلال آيات القرآن، والتي كانت بمثابة تذكير بمكانتها ومنزلتها، حيث كان القرآن يذكّر بحقوقها وبدورها الأساس في إقامة الحياة واستواء أمرها في كل المجالات؛ الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية وغيرها، فلم يكن القرآن يأتي بما هو جديد على المرأة ابتداء من تعاليم وحقوق وواجبات؛ بل كان يدعو إلى الإبقاء على مكانتها التي كانت عليها، وعلى كرامتها القائمة مُذْ خلقها الله عز وجل.

ومن ثَمََ فالمرأة لم تكن يوما صاحبةَ عار وخِسّة وهوان، حتى يأتي القرآن بعد مسيرة طويلة من الألم والتحمّل والمعاناة ليشرّع أحكاما جديدة تستحضرها -كأول مرة- في سياق ما تتعرض إليه من التعدي والظلم والاحتقار، بغية إنقاذها من ذلك الوضع الأليم والمتوجع؛ بل إن هذه الأمور، كانت معدومة في حق المرأة قبل مجيء القرآن، وما  نقرأه في النص القرآني من توجيهات تستبشع وَأْدَ المرأة أو تستفظع قتلها ودفنها، أو اغتصابَ أيّ حق من حقوقها في الحياة، إنما كان بمثابة صيحات قرآنية للرجوع بالمرأة إلى وضعها الأصلي، ودعوة إلى معاملتها معاملة شريفة لا تقل احتراما وتقديرا عن معاملة الرجل؛ لأنها -قبل كل شي- إنسان، لها من القدرات والمميزات ما للرجل تماما في ميزان الكرامة الإنسانية.

وعلى هذا الأساس، ذكّر القرآن الكريم بأنها مكوّن أصيل من مكونات النفس البشرية ومقوّم من مقوماتها، وبها استحقت أن تعامل معاملة الأُصَلاء الأبرار، لا لأنها امرأة فحسب؛ بل لكونها إنسانا ينتمي إلى ذلك الأصل المكرّم؛ إذْ إنّ “كل تكريم في الأصل الذي منه كان المنطلق، هو تكريم لجميع ما تناسل من هذا الأصل”. ولهذا يكفي المرأة كما الرجل شرفا أن كانا معا من أصل واحد خلقه الله عز وجل بيده فقال: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾، تنبيها “على أن هذا الخَلق ليس خَلقا عاديا من قبيل كن فيكون، ولكنه خَلْق له خصوصية، وهي أن الله باشره بيده، فهذا تنويه بنفاسة هذا الإنسان وهذا المخلوق” العجيب.

وبهذا صح أن نفهم أن القرآن لم يتحدث عن تكريم المرأة بذلك الفهم الذي يعني أن المرأة خُلقت سيئة الحظ والفأل، أو عديمة الحق والمرتبة والاهتمام؛ وإنما تحدث عنها كونها إنسانًا ينبغي تصحيح كل التصورات الخاطئة حوله، مع إصلاح أوضاعه الاجتماعية البائسة، انطلاقا من إبراز القيمة الإنسانية للمرأة في الحياة، ولذلك بيّن القرآن الكريم أن إلحاق الظلم بالمرأة لا يقتصر عليها لوحدها، بل هو ظلم للإنسانية جمعاء، و”في أخص معانيها، فالأنثى نَفْس إنسانية، إهانتها إهانة للعنصر الإنساني الكريم، ووأْدها قتل للنفس البشرية، وإهدار لشطر الحياة ومصادمة لحكمة الخلق الأصيلة، التي اقتضت أن يكون الأحياء جميعا -لا الإنسان وحده- من ذكر وأنثى”.

والدليل على صدق هذا الفهم، أن ما أوجده الله عز وجل لخلقه في الدنيا من خير أو شر، أو أعدّه لهم في الآخرة من جزاء أو عقاب، لم يخصص به جنسا دون آخر، إذ هو لهم على الاشتراك ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، ومنظار التصرف فيه ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فلا معيار للتصنيف بين الناس في القرآن، إلا على معيار الحفاظ على مبدأ التوحيد بالإيمان أو خرقه بالشرك.

أما عندما يتّحد الكل في هذا المبدأ، فإن القرآن يرحّب بالجميع، ويدعوه -بدلا من اسمه- بالأوصاف التي تضفي على حياته معنى من معاني شخصيته وإنسانيته، وتجعله أهلا لأن يُكرّم ويُؤثَر على غيره، وذلك بعد الاتصاف بالإخلاص، والإيمان، والصبر، والعطاء، والعفاف، والصدق… تحقيقا لهذا الخبر المؤكد: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.

واضح أن هذه الآية تحمل العديد من الدلالات، منها؛ أن القرآن وإن كان لا يبخّس من قيمة أحد، فإنه لا يهتم بأي إنسان، وإنما بالذي يحمل منظومة من القيم النبيلة، دفعا لأي توهم يخامر الأذهان بخصوص التمييز بين الرجال والنساء، كما أن الآية كافية لتقرير أصل التسوية بينهما في غير ما اختص به كل صنف عن الآخر، ولذلك ذُكرت المرأة إلى جانب الرجل للدلالة على أنها منه وهو منها، وأن أسباب الفضل والتفاضل ليست محجورة على أحد؛ إذ الميدان ميدان التنافس على صنع الإنسان الصالح.

ومن ثم فكل ما لحِق المرأة عبر تاريخها من صور التنقيص والتصنيف والاحتقار بحسب التصور القرآني للإنسان، إنما كان بسبب احتقار الإنسان للإنسان، ولا علاقة لها بالدين  ولا بنصوصه القرآنية أو الأحكام الإسلامية التي تَعتَمد في أصلها مِعيارَ التقوى والعملِ الصالح لتقييم الأكرم من النساء والرجال.

وعليه، فإن مبدأ التوحيد ومبدأَ الإنسانية أو البعد القرآني للتصور الإنساني، يوضحان أن المرأة كانت عزيزةَ القدر عظيمةَ الشأن مذ خلقها الله عز وجل؛ إذ كانت شريكة لآدم تؤازره في العبادة والحياة، يعبدان الله ويوحّدانه ويستغفرانه عن كل ذنب وقع منهما أو من أحدهما، ولم يحدث في أية رسالة من الرسائل السماوية أن نوديت المرأة بما يَحطّ من قدرها ويعلي من شأن غيرها، ولو كان فيها ما يمس بكرامة المرأة لحكاه القرآن وبين أسبابه. ويبقى السؤال؛ هل القرآن كرّم المرأة أم عمل على تصحيح وضعها المأزوم وإرجائه إلى الوضع الملائم؟

ثالثا: المرأة في القرآن بَيْنَ التكريم والتصحيح لوضعها المأزوم

سبقت الإشارة إلى أننا لا نجد في القرآن الكريم ما يدل على تمييز المرأة عن الرجل في كثير من الأمور؛ من قبيل الإيمان بالله، والعمل على كل أوجه الخير؛ من التعاون على البر والتقوى أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل القرآن يجمعهما في خطاب واحد وينادي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾. إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب المرأة والرجل على حد سواء، وهي آيات تخاطب الجميع -طبعا- بمنطق ما ترسّخ في هذه الآية ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ أي؛ من المعاني الدالة على أن تكريم بني آدم سابق لأوانه، والمرأة من بني آدم، ولا أدل على هذا المعنى الأزلي الغائر، من استعمال ذلك الفعل (كرّمنا) الضارب في الزمن الماضي من غير تعيين لحدوثه، فضلا عما أكد به هذا الفعل التكريمي من الأدوات المؤكدة لمعناه، اللام، وقد، وتضعيف الفعل.

وبهذا نفهم أن المرأة في النظر القرآني قد سبق تكريمها في الأزل، ولَمَّا تعرضت لِمَا تعرضت له من الحيف، والظلم، والقهر، والقمع، والإهمال، والتمييز، والإذلال، تدخّل القرآن لا لتكريمها كأول مرة في تاريخ حياتها، وإنما ليجدد العهد بجلالة قدرها وكرامتها التي فُطرت عليها أولَ مرة كإنسان يقاسم أخاه الإنسان في إنسانيته وروحانيته، فهي مكرمة قبلُ.

لكن قد يتعرض الإنسان في بعض الأحيان إلى الإهانة حتى ولو كان مُكرّما، فيحتاج إلى من ينصفه ويرفع عنه إهانتَه، وهذا ما وقع للمرأة تماما، فجاء القرآن الكريم لإنصافها والحفاظ على حياتها وعلى حقوقها المُهشَّمة، فعمِل على إبادة ومحو تلك الرؤيةَ التي كانت تعدّ المرأةَ ضمن كائنات ثانوية، ليس لها حق ولا رأي، لا تستأمر ولا تستشار، حكمها حكم سلعة رخيصة تباع وتشترى، فجاء القرآن الكريم لإنقاذها والرجوع بها إلى المسار الصحيح في المجتمع، وإلى المكانة التي تليق بها بين أقرانها فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

هنا انتفت معايير التمايز والتفاضل بين البشر، وأقيمت مقامها معايير أخرى يكون فيها التفاضل للأكرم عند الله وليس عند الناس،”إذْ لا اعتِدادَ بكرمٍ لا يَعبأُ الله به”. وهذا مظهر شريف من مظاهر تكريم المرأة في القرآن الكريم، إذ لم يعد أمامها حاكم من البشر يحدد مصيرها أو يزن قيمتَها، وبذلك أصبحت عنصرا فاعلا في المجتمع يتحرك وَفق سنن الله في كونه، ويحقق أهدافه تبعا لقدراته وميولاته.

وتخليد لهذا الاحتفاء الخاص بالمرأة في القرآن الكريم، فقد خاطبها الله عز وجل زوجا وخاطبها امرأة وخاطبها أمّاً وبنتا وأختا وصديقة وحليلة، ثم استجمع ذلك كله في عنوان عريض سمى به إحدى سور القرآن الكريم المعروفة بـ”سورة النساء“؛ تأبيدا لذكرها ورفعا لشأوها، وحَسْب المرأة شرفا وعزّا، وقدرا وفخرا، أن ذكرها الله عز وجل بلسانه، وسطّر اسمها في كتابه، فاحتلت العنونةَ عُلوّا، والمضمونَ مِثالا أصيلا وأنموذجا فريدا في الطهر والنقاء، والصفاء والاصطفاء.

وتتجلى هذه العناية الربانية الخاصة بالمرأة في اختيار مريم عليها السلام رمزا لكل امرأة في العفة والطهر والاصطفاء..، حيث كانت مَحطَّ رعاية الله قبل الولادة وبعدها، فقال ربنا وهو يصف هذا الاهتمام ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، تقبلها وربّاها واختارها بنفسه لتحبل من روحه، فهي إذن مصطفاة لأن تكون مصدر نبوة، تحمل من روح الله، وتحمل من سيكون كلمة الله على أرض الله، ومن سيتعامل مباشرة مع الروح القدس. ثم وهبها جملة من السمات الجليلة الموجودة في كثير من نساء الإسلام خصوصا زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه العناية الربانية توضح لنا مدى اهتمام النص القرآني بالمرأة وإبراز مكانتها وشرفها عند الله عز وجل.

كما قد أتى القرآن الكريم على ذكر نساء كثيرات، مؤمنات وكافرات، صاحبات جاه وسلطة كامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون وامرأة عمران وملكة سبأ… وغيرهن كثير، ونكتفي في هذا السياق بعرض نموذج واحد في مجال الجاه والسياسة والسلطة، للدلالة على أهمية المرأة ودورها في بناء المجتمع وحماية مصالح الناس وضمان أمنهم وسلامتهم، ولعل خير مثال على ذلك ما تقدمت به المرأة القائدة والحاكمة ملكة سبأ المعروفة بـ”بلقيس”، بلقيس الحكمة والفطنة وحريةِ الرأي.

وقصتها كما حكاها القرآن الكريم فيها ما يدل على نباهة عقلها، ووجاهة رأيها لمّا أُلْقي إليها كتابُ سليمان عليه السلام فقالت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)﴾.

ويتضح من خلال هذه الآيات، أن المرأة كانت على درجة عالية من الانتباه والإدراك، وقراءة ما بين السطور في كتاب لم يتجاوز ثلاث جمل، حيث أدركت أن الكتاب من رجل كريم لا يريد من الدنيا قليلها ولا كثيرها، ولربما لهذا السبب لم تُؤثِر العَجَلة في اتخاذ القرار، بل تريّثت حتى استشارت وطلبت الملأ بإبداء الرأي في المسألة، فكان الرد على طريقة الجنود، أي؛ بالقوة والاندفاع نحو اختيار أسلوب الحرب والمواجهة، لكن بلقيس الذكاء، كان لها رأي آخر في التفكير والتدبير.

ولذلك بادرت إلى البدء ببناء علاقات إيجابية عن طريق إرسال الهدية، إعمالا بالحكمة والعلم بنجاعة هذا الأسلوب وتأثيره في النفوس وتليين القلوب، إذ به استطاعت أن تُغيّر مجرى الحدث من تدمير كان مرتقبا إلى سِلم ربِحت به البلاد والعباد، بل اهتدت بسببه إلى معرفة الحق، فأسلمت وأسلم قومها بإسلامها، فحافظت على ملكها وعلى أَمْنها وأَمْنِ بلدها وقومها.

فـ”بلقيس” تعد أنموذجًا حيا لا لتكريم المرأة في القرآن الكريم فحسب، بل لتصحيح ما طالها -عبر التاريخ- من تصورات فاسدة وفُهوم مُهلهلة، مع إثبات أن المرأة لم تُحسب يوما أقلَّ قدرا من الرجل، لها من الكرامة والحرية والقوة ما يجعلها أهلا لأن تتحمل شؤون الدين والدنيا، فتبدي الرأي، وتدبر الأمور، وتدير الدولة، وتبني الحضارات، وتفك النزاعات، وما “بلقيس” إلا لضرب المثل عن قدرة المرأة وحنكتها ورزانتها في السياسة والتدبير، وإلا فهناك نماذج عديدة، نقرأها عن المرأة في كتاب الله، عسى أن يستيقظ بها المخالفون الخوالف، ويدركون قدر المرأة وشأْوَ مكانتها في الدين والحياة.

خاتمة

غني عن البيان بعد هذه الجولة السريعة، أن القرآن لم يظلم الأنثى ولم يستصغرها في شيء، كما يحلو للبعض أن يفهم ذلك ويُروّج له بكل الوسائل، وأن القرآن -في المقابل- لم يكرّمها بذلك الفهم الذي يربط بداية تحريرها وتكريمها بزمن نزول القرآن فقط؛ لأن المرأة صاحَبَها التشريف والتعظيم قبل مجيء القرآن بقرون، أي؛ مع النشأة الأولى للخلق، والتي ابتدأها الله عز وجل بيده ونفخ فيها من روحه، فكان لها التمجيد والتوقير من هذا الجانب، وهو دليل قوي على تساوي المرأة والرجل في الأصل والفطرة بلا فارق، ولو أن الناس أدركوا هذه الحقيقة وجعلوها نصب أعينهم، لما تصوروا في المرأة ما تصوروا من مصدر للشر والبؤس والنجاسة والرجس.

وما تردّ وضع المرأة وانتكس إلا بعد أن بَعُدت الشُّقة وتناسى الأنام أنها صنو الرجل، فتعرضت بسبب ذلك لألوان الظلم والتعصب والتمييز والاحتقار، حتى وصل بها الحال إلى النفي والتعذيب والقتل، وصارت عنوانا للشؤم، والتعاسة، والغم، والنّكَد، والحزن لدى كل من يستقبل ولادتها، وفي خضم هذا الوضع الناقم، ظهر القرآن وهو يربط حاضر المرأة بماضيها المشرق، إبرازا لمكانتها وبيانا لحقيقتها التي  لا تنفصل عن الرجل في أصل إنسانيته، ولا تقل عنه في كرامته ولا في سمو قدره.

وقد شكلت هذه المرحلة بالنسبة إلى المرأة نقطة تحول إلى وضعها الطبيعي، وذلك بتذكير الغلاة من الناس وتصحيح التصورات والتصرفات، لا بِسَنّ أحكام جديدة للدفاع عن المرأة، وإنما بإعادة إحياء العمل بتلك الأحكام وإدماجها في المجتمع من جديد، وفي هذا الصدد، عرض القرآن نماذج عديدة  للمرأة في ميادين مختلفة، وفي مجالات متعددة، لا للاحتفاء بها كما يفهم الكثير من الناس، وإنما لبيان أنها كانت عضوا فاعلا -إلى جانب الرجل- في بناء القيم والمجتمعات، وليست مرفوضة بدعوى الضحالة الفكرية والغباوة العقلية.

وقد بين القرآن أن سبب هذا الانحراف في التعامل والسلوك مع المرأة، ناتج عن انحراف في مبدأ التوحيد والاعتقاد والجهل بالبعد الحقيقي للإنسان، ولذلك عمل على ترسيخ العلم بهذين المبدأين، وجَعْلهما معيارا أساسا لأي تمايز أو تفاضل ممكن بين الذكر والأنثى، بل بَيْن الإنسان بمختلف أشكاله وألوانه.

 

لائحة المراجع

  • القرآن الكريم.
  • سيد قطب، في ظلال القرآن، د.تح، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط17، 1412ه.
  • الشاهد البوشيخي، مظاهر تكريم الإنسان في القرآن، الكريم، مطبعة أنفو، فاس، د.ط، 2009م.
  • الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد)، الدار التونسية للنشر، تونس، د.ط، 1984م.

 

  الدكتور رشيد ازلوف

حاصل على الدكتوراه في الدرس اللغوي وتحليل الخطاب القرآني، جامعة القاضي عياض،
مراكش. والماستر في البلاغة وتحليل الخطاب من الجامعة نفسها. والإجازة في الدراسات
العربية، جامعة القرويين، كلية اللغة العربية، مراكش.
ومن أعماله المطبوعة والمنشورة:
• كتاب: بلاغة الجسد في الحديث النبوي. ISBN : 978 -9957-35-601-9 .
• كتاب قيد الطبع بعنوان: انزياح البدل في القرآن الكريم.
• مقال : المجنون والصبيان في السرد العربي، منشور في كتاب جماعي موسوم بـ خطاب
الجنون في التراث العربي والغربي مقاربات لغوية وثقافية، منشورات مؤسسة آفاق للدراسات
والنشر، ط1، 2021.
• مقال بعنوان: التأويل النحوي لبدل الكل وعطف البيان بحْث في وجوه الاتفاق والافتراق،
منشور في كتاب جماعي ،الخطاب والتأويل أنظار ورهانات، دار تادلة، بني ملال، المغرب،
ط1، 2025.
• مقال بعنوان أحكام الصبي والمجنون في ضوء الشريعة والقانون مقاربة مقارنة منشور
في مجلة ريناد. العدد7.
• مقال بعنوان: الأثر النحوي للعلامة عبد الواحد بن عاشر المغربي (ت1040ه) منشور في
مجلة النبوغ الدولية . العدد1.
• مقال بعنوان: أهم الزوايا الصوفية لإقليم اليوسفية ودورها في خدمة العلوم العربية، منشور
في مجلة النبوغ الدولية، العدد2.
• مقال بعنوان: حكم الالتزام بالقوانين الوضعية للدولة في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، منشور في المجلة المغربية للدراسات الإنسانية،العدد7. وأعمال أخرى منشورة وأخرى
قيد النشر لا تتسع الورقة لذكرها.
• عضو محكم في مجموعة من المجلات العلمية المحكمة والدولية.

 

 

 

 

 

 

 

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *