كليلة ودمنة من الترجمة إلى التأثير: رحلة النص في الوعي العباسي
بقلم الدكتورة نورس هاشم القريشي – العراق – جامعة واسط.

في قلب الأدب العربي العباسي يظل نص كليلة ودمنة أحد الأعمال الأدبية المؤثرة، ليس فقط لقيمته القصصية، بل لدوره العميق في تشكيل وعي المتلقي العربي وإثراء فهمه للإنسانية والسياسة والأخلاق. هذه الحكايات الحيوانية، التي أخذت رحلتها في الهند بلغة بسيطة، وجدت في بغداد خلال عصر الترجمة العباسية أرضًا مثمرة لتزدهر، محوّلة إلى مرآة ثقافية تعكس الفكر والسياسة والأخلاق، وجاعلة من كل قصة تجربة فكرية متكاملة. وكان العصر العباسي عصر التفاعل الحضاري، حيث اجتمعت الثقافات الفارسية واليونانية والهندية مع اللغة العربية والدين الإسلامي، لتتطور حركة الترجمة وتصبح بغداد مركز إشعاع أدبي وفكري عالمي. وفي هذا الوقت، أصبح نص كليلة ودمنة رمزًا للبحث عن الحكمة وفهم الإنسان والمجتمع؛ لم يُستقبل النص فقط كنص أجنبي مترجم، بل كنص يعاد تشكيله ويُستثمر لغويًا وفنيًا وفلسفيًا. حين ترجم ابن المقفع النص إلى العربية، لم يكن مجرد ناقل للأحداث، بل أبدع في قلب الحكايات الهندية إلى لوحات أدبية غنية بالبلاغة والفصاحة، وأصبح النقاش بين الأسد والثور، والحمامة والغراب، نافذة لقراءة الواقع الاجتماعي والسياسي، ومشهدًا يعرض صراعات العدالة والسلطة، القوة والدهاء، البراءة والمكر. بهذا الشكل، تجاوز النص حدود السرد البسيط ليصبح تجربة ثقافية وفلسفية، تمكّن المتلقي من التفكير في ذاته ومجتمعه بأسلوب رمزي وجذاب في الوقت ذاته.
في البيئة العباسية، أصبح النص جزءًا من النسيج الثقافي اليومي؛ كانت الحكايات تُقرأ في المجالس الأدبية والقصور، وتُدرّس في حلقات العلم، وصارت مرجعًا لفهم السياسة والأخلاق وفن الخطابة. كما استلهم الأدباء العباسيون أسلوب السرد الرمزي والحوار من النص، وظهر تأثيره على أدب الوعظ والرسائل، وصولًا إلى المقامات التي جمعت بين السرد والفلسفة والحيلة. فقد تبنى الجاحظ، على سبيل المثال، تقنيات كليلة ودمنة في حواراته، مستخدمًا التشبيه الحيواني لمعالجة قضايا المجتمع بأسلوب فكاهي وحكيم معًا.
من المنظور الجمالي، يقدم النص نموذجًا رائدًا في فن الحكاية داخل الحكاية، وتقنية السرد المتداخل، ما منح القراء القدرة على اكتشاف مستويات متعددة من المعنى. هذا الأسلوب لم يكن مألوفًا في الأدب العربي قبل ذلك، لكنه أصبح معيارًا يُدرس ويحتذى به في الأساليب القصصية اللاحقة، سواء في الأدب العربي أو حتى في الأدب الأوروبي بعد قرون، كما يظهر في أعمال مثل (ديكاميرون) و*(ألف ليلة وليلة)*.
أما على الصعيد الفلسفي، يحمل النص رسالة عميقة: الحكمة غالبًا ما تأتي مخفية وراء الأقنعة، والشخصيات الحيوانية ليست مجرد رموز صورية، بل شخصيات فكرية تعكس قضايا اجتماعية وأخلاقية وسياسية. فالأسد يمثل السلطة المطلقة، والثور يرمز إلى البراءة والخضوع، والغراب صورة للدهاء والمكر. كل شخصية تصبح أداة لفهم الواقع، وكل حكاية نافذة على التفكير النقدي.
تجربة كليلة ودمنة في الوعي العباسي تبيّن كيف يمكن للنص أن يتحول من مجرد ترجمة إلى أداة ثقافية وفكرية حية. لقد وجد العباسيون في النص مرآةً لذاتهم، تعكس فلسفتهم في الحكم وفهمهم للعلاقات الإنسانية والاجتماعية، وتعزز وعيهم بالقيم والأخلاق والسياسة. بهذا أصبح النص أكثر من مجرد كتاب؛ أصبح ظاهرة ثقافية ومصدرًا للتفكير النقدي والتعليم الأدبي.
الأثر الإنساني للنص لا يقل أهمية عن أثره الأدبي والفكري، فقد ساهم في تشكيل وعي القراء، وجعلهم يدركون قيمة الحكمة والذكاء والعدل، وعرّفهم على أهمية قراءة الواقع بعين نقدية وتحليلية، بعيدًا عن المباشرة المفرطة. هكذا أضفى النص بعدًا إنسانيًا وجعل القراءة تجربة عاطفية وفكرية متكاملة، حيث يمكن للمتلقي الشعور بالارتباط الشخصي مع الشخصيات والحكايات، والاستلهام منها لرؤى عملية في الحياة اليومية.
رحلة كليلة ودمنة ليست مجرد قصة عبر الزمن، بل رحلة ثقافة كاملة: من الهند إلى فارس، ومن ثم إلى بغداد، وأخيرًا إلى العالم، لتظهر كيف يمكن للأدب أن يكون جسرًا بين العقول، وأن الحكمة، حين تُقدّم بأسلوب فني، تستطيع العبور عبر القرون وتجديد حضورها في كل زمان ومكان.
القيمة الكبرى للنص تكمن في أنه حوّل السرد إلى أداة للحكمة، والحكاية إلى وسيلة للتأمل الفلسفي، والرمز إلى لغة للحرية الفكرية. واستمر تأثيره حتى اليوم، ليس فقط في الدراسات الأدبية، بل في الفكر الإنساني العام، بوصفه نموذجًا يحتذى به في استخدام الأدب كأداة للتفكير النقدي والتعليم الاجتماعي والفلسفي.
الدكتورة نورس هاشم جبر حربي القريشي،
-
متخصصة في اللغة العربية وآدابها، وتعمل تدريسية في جامعة واسط بكلية الآداب.
-
تشغل منصب مسؤولة وحدة قبول الطلبة في شعبة الدراسات العليا بكلية الآداب.
-
شاركت في المؤتمر العلمي الدولي للعلوم الاجتماعية والإنسانية والصرفية الذي أقامته جامعة قم في إيران بالتعاون مع جامعة الحمدانية، وكلية التربية للبنات – جامعة الشطرة، وكلية التربية الأساسية – جامعة سومر، ومؤسسة حروف لتطوير التعليم في العراق، تحت شعار “دور البحث في تعزيز التكامل بين العلوم”.
-
شاركت في الملتقى الدولي الإلكتروني الموسوم “اللغة العربية: أصالة وتجدد”، الذي عقده مركز ياء للدراسات التخصصية في اللغة العربية بالتعاون مع كلية الإمام الكاظم عليه السلام – أقسام البصرة.
-
شاركت في المؤتمر العلمي الدولي الرابع لكلية العلوم التربوية وتأهيل المعلمين – جامعة سونان كاليجاكا الإسلامية الحكومية، جوكجاكرتا، إندونيسيا، بالتعاون مع مؤسسة الذكوات للثقافة والفكر والفنون – العراق، والأكاديمية اللبنانية للتدريب والتطوير، تحت عنوان “البحث العلمي المعاصر ودوره في تحقيق أهداف التنمية المستدامة”.
-
لها عدد من البحوث المنشورة في مجلات محلية ودولية.
-
شاركت في العديد من الندوات والورش والدورات والحلقات النقاشية في كلية الآداب – جامعة واسط.
-
كانت عضوًا في العديد من اللجان الأكاديمية والإدارية.
-
حصلت على عدة كتب شكر من عمادة كلية الآداب ورئاسة الجامعة تقديرًا لجهودها وتميزها في العمل الأكاديمي والإداري.
حقوق النشر © محفوظة لمركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب حصرًا.
تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا المقال، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان المقال، تاريخ النشر، الصفحات).
إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.
لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المركز عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternational2021@gmail.com
![]()

