العدالة التصالحية باستخدام الذكاء الاصطناعي: بناء أنظمة وساطة مبتكرة
د. أمل فوزي أحمد – مصر
جامعة عين شمس
مقدمة:
تسعى العدالة التصالحية إلى إعادة التوازن الاجتماعي من خلال تسوية النزاعات بوسائل ودّية تعتمد على الحوار والتعويض وإعادة دمج الأطراف، بدلاً من الاقتصار على العقاب التقليدي. وتمثل العدالة التصالحية نموذجًا بديلًا للعدالة العقابية، إذ تُركّز على إصلاح الضرر وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بين الأطراف المتنازعة.
مع التطور المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان توظيف هذه الأدوات لبناء أنظمة وساطة رقمية مبتكرة، قادرة على تسريع حل النزاعات وتحقيق نتائج عادلة قائمة على البيانات والتجارب السابقة. غير أن دمج الذكاء الاصطناعي في العدالة التصالحية يطرح تحديات قانونية وأخلاقية تتعلق بالحياد، الشفافية، وحماية حقوق الأطراف.
يتبلور السؤال المحوري لهذه الدراسة في التالي:
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دور الوسيط في النزاعات، مع الحفاظ على القيم الإنسانية والضمانات القانونية التي تقوم عليها العدالة التصالحية؟
وتسعى الدراسة إلى تقديم رؤية منهجية متوازنة تجمع بين الفرص التقنية والضمانات القانونية والأخلاقية.
إشكالية البحث
مع تصاعد الاهتمام بالذكاء الاصطناعي في مجال العدالة، يظهر تحدٍ جوهري يتمثل في إمكانية توظيف هذه التقنيات كوسيط أو مساعد في العدالة التصالحية من دون الإخلال بالجوهر الإنساني أو بالمرتكزات القانونية التي تقوم عليها.
إشكالية البحث:هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في أداء دور الوسيط أو المساعد في العدالة التصالحية، مع مراعاة القيم الإنسانية والضمانات القانونية؟
أهداف البحث
تسعى هذه الدراسة إلى توضيح الغاية العملية والنظرية للبحث، وتقديم إطار منهجي واضح يوجه التحليل والتقييم. وتركز أهداف البحث الأساسية على:
-
تطوير نموذج عملي للوساطة المدعومة بالذكاء الاصطناعي يسهم في تسوية النزاعات بفعالية وعدالة.
-
تحليل الخوارزميات التي يمكن أن تولّد حلولًا تصالحية عادلة ومستندة إلى البيانات والتجارب السابقة.
-
تقييم الجدوى القانونية للاعتراف بالوساطة الرقمية ضمن الأطر التشريعية المعمول بها.
-
استكشاف التحديات الأخلاقية المتعلقة بالتحيز وحماية البيانات، وضمان توافق الحلول الرقمية مع المبادئ الإنسانية.
المنهجية
اعتمد البحث منهجية تحليلية متكاملة تجمع بين التحليل النظري والمقارنات التطبيقية ودراسة الحالة الواقعية، بهدف تقييم دور الذكاء الاصطناعي في دعم العدالة التصالحية ومدى توافقه مع الضمانات القانونية والأخلاقية. وفي هذا الإطار، اتُبعت ثلاثة أبعاد رئيسية:
-
البُعد التحليلي: لدراسة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الوساطة الرقمية وتقييم تأثيرها على تسوية النزاعات.
-
البُعد المقارن: لتحليل التجارب الدولية، مثل ODR في الاتحاد الأوروبي وكندا، والتجارب العربية في السعودية والإمارات، مع التركيز على الأطر التشريعية وفعالية الحلول الرقمية.
-
البُعد التطبيقي: عبر دراسة حالة واقعية توضح كيفية تنفيذ الوساطة الرقمية ومدى نجاحها في تحقيق نتائج عادلة وفعّالة.
المناقشة والتحليل
1. تطوير خوارزميات تصالحية
تشكل الخوارزميات العمود الفقري للوساطة الرقمية، إذ تتحكم في كيفية توليد الحلول وتوجيه الأطراف نحو اتفاق عادل ومتوازن. وتعتمد هذه الخوارزميات بشكل رئيس على تقنيات التعلم الخاضع للإشراف (Supervised Learning) لتدريب النماذج على بيانات النزاعات السابقة، مما يمكّنها من تقديم حلول قائمة على التجارب الواقعية.
أمثلة تطبيقية: تشمل اقتراح نسب التعويض، وضع جداول زمنية للوفاء بالالتزامات، وتوليد سيناريوهات بديلة للتسوية.
التحدي الأساسي: ضمان أن تكون البيانات متنوعة وخالية من الانحياز، بما يضمن حيادية النتائج ومصداقية الحلول المقترحة.
2. الوسيط الرقمي ودور الذكاء الاصطناعي
يتيح الذكاء الاصطناعي أداء دور الوسيط الافتراضي، مما يمكّن الأطراف من تسوية النزاعات بكفاءة أعلى وحيادية أكبر مقارنة بالوساطة التقليدية. ويشمل دور الذكاء الاصطناعي وظائف أساسية متعدّدة، منها:
-
إدارة الحوار: عبر واجهات محادثة مدعومة بتحليل اللغة الطبيعية (NLP)، بما يساعد على تنظيم الحوار بين الأطراف بطريقة فعّالة.
-
مراقبة نبرة الخطاب: استخدام أدوات تحليل المشاعر (Sentiment Analysis) لتوجيه الحوار نحو لغة أكثر حيادية، والحد من التصعيد العاطفي.
-
إنتاج مسودات الاتفاق: توليد مسودات قابلة للتوقيع الرقمي، مع ضمان الاعتراف القانوني بها عند توفر الأطر التشريعية المناسبة.
3. التحديات القانونية والأخلاقية
رغم الفعالية العالية للوساطة الرقمية، تبرز تحديات قانونية وأخلاقية جوهرية تهدف إلى ضمان مصداقية النتائج وحماية حقوق الأطراف.
-
الإطار القانوني: تبرز الحاجة إلى تعديلات تشريعية واضحة تعترف بالاتفاقات الناتجة عن الوساطة الرقمية، كما هو الحال في قانون الوساطة الإماراتي لسنة 2021، لضمان الاعتراف القانوني بالنتائج الرقمية.
-
الخصوصية وحماية البيانات: يشمل ذلك تطبيق التشفير واعتماد معايير حماية البيانات الدولية، مثل اللوائح الأوروبية لحماية البيانات (GDPR)، لضمان سرية المعلومات وحماية الأطراف.
-
المسؤولية القانونية: تحديد الجهة المسؤولة عن أي خطأ أو خلل في الاقتراحات الآلية، سواء كان المطور، الجهة القضائية، أم الوسيط البشري، لضمان وضوح المسؤوليات والحد من المخاطر القانونية.
دراسة الحالة
أ) التجربة الدولية – منصة eBay ODR
تعد منصة eBay ODR نموذجًا ناجحًا لتطبيق الوساطة الرقمية، حيث قامت بمعالجة أكثر من 60 مليون نزاع سنويًا بين البائعين والمشترين، وتم حل أكثر من 85% من هذه النزاعات آليًا من دون تدخل بشري مباشر. ويُعزى نجاح المنصة إلى وضوح القواعد الخوارزمية، وسهولة التفاعل عبر المنصة، مما يعزز كفاءة الوساطة ومصداقية النتائج.
ب) التجربة العربية – مركز فض المنازعات الإيجارية بدبي (2023)
أطلق المركز أول محكمة افتراضية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في إدارة النزاعات العقارية، متيحًا للأطراف رفع النزاع، تبادل المستندات، والمشاركة في جلسات افتراضية، مع اقتراح حلول وسطية.
ويتمثل التحدي الأساسي في ضمان أن تتمتع الاتفاقات المبرمة عبر الوساطة الافتراضية بالقوة التنفيذية نفسها للأحكام القضائية التقليدية، لضمان فعاليتها القانونية ومصداقيتها.
مقارنة بين الوساطة التقليدية والرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي
العنصر | الوساطة التقليدية | الوساطة الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي |
---|---|---|
الزمن | طويلة نسبيًا (جلسات متعددة) | سريعة (تحليل فوري) |
التكلفة | أتعاب وسطاء + مصاريف جلسات | أقل (أتمتة العمليات) |
الحياد | مرتبط بمهارات الوسيط البشري | مرهون بخلو البيانات من التحيز |
السرية | معرضة لتسريبات بشرية | تحتاج تشفيرًا وحوكمة رقمية صارمة |
القيمة الإنسانية | عالية (تفاعل مباشر) | أقل، إلا إذا استُخدم الذكاء الاصطناعي العاطفي |
القوة القانونية | معترف بها في معظم التشريعات | تحتاج تحديث تشريعي صريح |
النتائج والخلاصات
توضح نتائج الدراسة فعالية الذكاء الاصطناعي في دعم العدالة التصالحية، مع التأكيد على أن نجاح هذه الوساطة الرقمية لا يتحقق إلا من خلال الحفاظ على التدخل البشري، وضمان الأطر القانونية والأخلاقية المناسبة.
أبرز النتائج:
-
يُظهر الذكاء الاصطناعي قدرة عالية على تسريع وتسوية النزاعات بفعالية، خصوصًا في القضايا البسيطة والمتكررة.
-
يجب استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للوساطة البشرية، دون استبدال الدور البشري في اتخاذ القرارات أو الحفاظ على الطابع الإنساني للعدالة التصالحية.
-
يعتمد نجاح التجربة على وجود أطر قانونية صارمة تحدد المسؤوليات وتحمي البيانات، لضمان مصداقية وفاعلية النتائج.
-
تثبت التجارب الدولية والعربية جدوى النماذج الرقمية، إلا أنها تحتاج إلى إطار تشريعي دولي متكامل لضمان الاعتراف القانوني بالاتفاقات الرقمية وفعالية تنفيذها.
الخاتمة
تمثل العدالة التصالحية المدعومة بالذكاء الاصطناعي فرصة لإعادة ابتكار مفهوم الوساطة، من مجرد أداة بشرية تقليدية إلى منظومة هجينة تجمع بين الذكاء الإنساني والقدرة الحسابية للخوارزميات. هذا المزج يمكن أن يفتح الباب أمام مستقبل للعدالة
أكثر سرعة وإنصافًا، بشرط عدم إغفال الضمانات القانونية والأخلاقية التي تصون جوهر العدالة التصالحية.
توصيات البحث:
-
تطوير تشريعات وطنية واضحة تنظم عمل الوساطة الرقمية وتضمن الاعتراف القانوني بالاتفاقات الصادرة عنها.
-
اعتماد أطر أخلاقية محلية متوافقة مع المعايير الدولية لحماية حقوق الأطراف وضمان حيادية النتائج.
-
تدريب الوسطاء البشريين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لضمان تكامل فعّال بين الوساطة البشرية والقدرات الرقمية، وتعزيز كفاءة العملية التصالحية.
المراجع
مراجع أجنبية
-
Katsh, E., & Rabinovich-Einy, O. (2017). Digital Justice: Technology and the Internet of Disputes. Oxford University Press.
-
Rule, C. (2016). ODR and the Future of Justice. International Journal of Online Dispute Resolution.
-
European Commission, ODR Platform (2020).
-
OECD, AI Principles for Responsible Use (2019)
مراجع عربية
1. وزارة العدل السعودية، المصالحة الرقمية (2023).
2. حكومة دبي، المحكمة الافتراضية لفض المنازعات الإيجارية (2023).
3. المركز السعودي للتحكيم التجاري، مبادرات الوساطة الإلكترونية (2024).
4. قانون الوساطة الإماراتي رقم 6 لسنة 2021.
د. أمل فوزي أحمد
-
د. أمل فوزي أحمد، حاصلة على دكتوراه في القانون – جامعة عين شمس، ديسمبر 2021.
-
خبرة أكاديمية في قوانين الكمبيوتر، الملكية الفكرية، والتحول الرقمي في العدالة.
-
باحثة بدبلوم الأمن السيبراني – كلية الحاسبات والمعلومات، جامعة حلوان 2024/2025.
-
رئيسة وحدة تكنولوجيا المعلومات – كلية التربية الفنية، جامعة حلوان.
-
حاصلة على جائزة الموظف المثالي بالجامعة 2020/2021.
-
مؤلفة لعدد من الكتب العلمية المحكمة والمنشورة في المكتبة الوطنية الألمانية حول العدالة الرقمية، الأدلة الإلكترونية، إدارة الأزمات الرقمية، الملكية الفكرية، والذكاء الاصطناعي.
-
نشرت العديد من الأبحاث العلمية في مؤتمرات ودوريات دولية محكمة في ألمانيا، المغرب، الجزائر، مصر، وسلطنة عمان، في مجالات القانون الرقمي، العدالة التنبؤية، والتحول الرقمي القضائي.
-
عضو ورئيس تحرير في مجلات علمية دولية متعددة، منها مجلة الضاد الدولية للتكنولوجيا وعلوم المستقبل – لندن، ومجلة المؤتمرات الدولية – برلين.
-
منظمة ومشاركة في مؤتمرات دولية كبرى، منها: “الذكاء الاصطناعي ورهانات المستقبل” – برلين 2024، و”التنمية المستدامة في الفكر الإسلامي” – الأزهر 2022.
-
مدربة معتمدة T.O.T، ومحاضرة في مجالات التحول الرقمي، الأمن السيبراني، إدارة الأزمات، ريادة الأعمال، وأدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
-
حاصلة على شهادات MOS, ICDL, IC3، وتدريبات متقدمة.
حقوق النشر © محفوظة لمركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب حصرًا.
تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا المقال، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان المقال، تاريخ النشر، الصفحات).
إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.
لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المركز عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternational2021@gmail.com