من الأزمات إلى الفرص: الذكاء الاصطناعي في إعادة هيكلة البنية التحتية – بقلم: د. طلال علي عبد الواسع بشر – اليمن

من الأزمات إلى الفرص: الذكاء الاصطناعي في إعادة هيكلة البنية التحتية

بقلم الدكتور طلال علي عبد الواسع بشر – اليمن

أستاذ مساعد كلية الإدارة الجامعة الأمريكية المفتوحة

في عالم يتسم بالتغيرات المتسارعة والتحديات غير المسبوقة، لم تعد البنية التحتية التقليدية قادرة على مواكبة متطلبات العصر. تبرز هنا الحاجة إلى تحول جذري، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي (AI) ليس مجرد أداة مساعدة، بل منهجًا تحويليًّا قادرًا على قلب الموازين، محوّلاً التحديات المزمنة إلى فرص استثنائية لبناء مستقبل أكثر مرونة وكفاءة واستدامة. هذه المقالة تستعرض هذه الرحلة من التشخيص إلى الاستشراف عبر خمسة محاور أساسيّة.

المحور الأول: تشخيص واقع الأزمة (الإطار المشكل للمشكلة):

ببدأ الطريق نحو الحل بتشخيص دقيق للواقع المتردي. تواجه البنية التحتية العالمية، وفي العديد من الدول العربية، أزمة متعددة الأبعاد يمكن وصفها على النحو التالي:

حالة التقادم وعدم الملاءمة: تعاني العديد من شبكات الطرق والجسور وأنظمة المياه والطاقة من التقادم، حيث تجاوز عمرها الاقتراضي من دون أن يتم تحديثها لمواكبة الاحتياجات المتزايدة للسكان والصناعة. هذا التقادم يجعلها هشة وعرضة للأعطال المتكررة.

نمط الصيانة التفاعلية الباهظ: لا تزال استراتيجية الصيانة السائدة هي “انتظار حدوث العطل” ثم معالجته، وهي استراتيجية مكلفة للغاية. فهي لا تتسبب فقط في تكاليف إصلاح مرتفعة، بل وفي تعطل الخدمات لفترات طويلة، مما يزيد من التبعات الاقتصادية.

الضغوط الخارجية المتصاعدة: يزيد النمو السكاني والتحضر المتسارع من الضغط على هذه البنى التحتية المتآكلة أصلاً؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن تداعيات التغير المناخي، من فيضانات غير مسبوقة وموجات حر وعواصف، تعرّضها لاختبارات قاسية لم تصمم لتحملها، مما يزيد من وتيرة الكوارث وتكاليف إعادة الإعمار.

التبعات الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة: انعكاسات هذه الأزمة ليست تقنية فحسب، بل هي اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى. فتعطل شبكات النقل يعيق حركة السلع والأفراد، ويخفض الإنتاجية. وانقطاع التيار الكهربائي أو المياه يعطل الحياة اليومية ويضر بالصحة العامة والسلامة، باختصار، تتحول أزمة البنية التحتية إلى عبء مباشر على الاقتصاد ونوعية الحياة.

المحور الثاني: الذكاء الاصطناعي كمنهج تحويلي (الجسر الحلي):

في مواجهة هذا الواقع القاتم، يقدم الذكاء الاصطناعي نفسه ليس كمجر د تقنية، بل كفلسفة جديدة لإدارة البنية التحتية، جاعلا التحول من النمط التفاعلي إلى النمط الاستباقي والتنبؤي ممكنًا للمرة الأولى. يعتمد هذا التحول على مجموعة من التقنيات الأساسية:

التعلم الآلي والتحليلات التنبؤية: تمكن هذه التقنيات من تحليل كميات هائلة من البيانات التاريخية والزمنية الحية للتنبؤ بموعد حدوث عطل محتمل في أحد المكونات (مثل مضخة مياه أو جزء من جسر)، مما يسمح بالصيانة قبل فوات الأوان.

النماذج الرقمية التوأمية: هي نسخ رقمية طبق الأصل وحية من الأصول المادية (كمحطة طاقة أو مدينة كاملة). تسمح هذه النماذج بمحاكاة السلوك تحت ظروف مختلفة (كزيادة الضغط أو حدوث عاصفة)، مما يتيح للمخططين اختبار السيناريوهات واتخاذ القرارات المثلى في بيئة افتراضية من دون مخاطرة.

الرؤية الحاسوبية: باستخدام الطائرات المسيرة (الدرونز) والكاميرات الذكية، يمكن لهذه التقنيات تفتيش الجسور والأنفاق وخطوط الكهرباء بشكل آلي ومستمر، والكشف عن التشققات أو التشوهات بدقة تفوق العين البشرية بكتير، وبسرعة أكبر وأكثر أمانًا.

هذه الأدوات مجتمعة تخلق نظامًا عصبيًا ذكيًا للبنية التحتية، قادرًا على “الشعور” بمحيطه و”التفكير” في البيانات و”التصرف” استباقيًا لمنع الأزمات.

المحور الثالث: مجالات التطبيق وتحقيق الفرص (التطبيقات العملية):

يترجم الذكاء الاصطناعي نظرياته إلى حلول ملموسة في  القطاعات المختلفة، محققًا فرصًا هائلة:

إدارة شبكات النقل الذكية: يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل حركة المرور لحظيًا وتعديل إشارات المرور ديناميكيًا لتقليل الازدحام. كما يمكنها مراقبة سلامة البنى التحتية الحرجة مثل الجسور والأنفاق، والكشف المبكر عن أي أعطال إنشائية.

تحسين كفاءة شبكات الطاقة (الشبكات الذكية): يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالطلب على الطاقة بدقة عالية، وإدارة الأحمال بشكل ذكي لمنع الانقطاعات. كما يؤدي دورًا محوريًا في دمج مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة (كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح) في الشبكة بكفاءة واستقرار.

ترشيد إدارة المياه والصرف الصحي: باستخدام أجهزة الاستشعار والتحليلات التنبؤية، يمكن رصد تسريبات المياه في الشبكات وتحديد موقعها بدقة، مما يوفر مليارات الأمتار المكعبة من المياه المهدرة. كما يحسن عمليات معالجة مياه الصرف الصحي، ويُحسن توزيع المياه بحسب الطلب الفعلي.

تعزيز سلامة وكفاءة المشاريع الإنشائية: تستخدم تقنيات الرؤية الحاسوبية في المراقبة الذكية لمواقع البناء للكشف عن المخالفات أو مخاطر السلامة. كما يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين تخطيط المشاريع، وتوقع التأخيرات.

وتخصيص الموارد (المعدات والعمالة) بشكل أمثل لتسريع الإنجاز وتخفيض التكاليف.

المحور الرابع: تحليل التحديات والمعوقات:

على الرغم من هذا المستقبل الواعد، فإن طريق التحول إلى البنية التحتية الذكية ليس مفروشًا بالورود، بل يعترضه عدد من التحديات الجسيمة:

التحديات الفنية: تكمن المشكلة الأساسية في جودة البيانات وتوافرها. تعتمد خوارزميات الذكاء الاصطناعي على بيانات ضخمة ونظيفة. كما أن مشكلة قابلية التشغيل البيني بين الأنظمة القديمة والجديدة تشكل عائقًا كبيرًا.

التحديات المالية: تتطلب عملية التحول هذه استثمارات مبدئية ضخمة في البنية التحتية الرقمية (أجهزة استشعار، اتصالات، خوادم) وفي شراء وتطوير البرمجيات المتقدمة، مما قد يكون عبئًا على الميزانيات الحكومية.

التحديات التشريعية والتنظيمية: هناك غياب شبه كامل للأطر القانونية التي تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، وتحدد مسؤولية الأخطاء، وتضمن أمن البيانات وخصوصية المواطنين، خصوصًا مع وجود أنظمة مراقبة واسعة.

التحديات البشرية والمؤسسية: Perhaps أكبر التحديات هو التغيير الثقافي. يتطلب الأمر تطوير مهارات العاملين وإعادة تأهيلهم، وتغيير الثقافة المؤسسية التقليدية المقاومة للتغيير، وبناء الثقة في قرارات تتخذها الآلة.

المحور الخامس: التوصيات واستشراف المستقبل:

لتحقيق هذه الرؤية وتحويل التحديات إلى فرص، لا بد من اتباع حزمة من التوصيات الاستباقية:

توصيات عملية:

وضع سياسات داعمة: على الحكومات تطوير استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي في البنية التحتية، ووضع أطر تشريعية مرنة وآمنة.

الاستثمار في الأساس الرقمي: يجب اعتبار البنية التحتية للبيانات والاتصالات (مثل شبكات 5G) أساسًا وطنيًا لا يقلّ أهمية عن الطرق والجسور.

تعزيز الشراكات: تشجيع نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) لجذب الاستثمارات الخاصة والخبرات العالمية.

رؤى مستقبلية:

بنية تحتية قادرة على التكيف الذاتي: المستقبل يحمل في طياته ظهور بنية تحتية “حية” وذكية، قادرة على مراقبة صحتها، والتكيف مع التغيرات (كزيادة الحمل أو الأحوال الجوية)، وإصلاح نفسها ذاتيًا إلى حد كبير.

محقق لأهداف الاستدامة: سيكون الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية في تحقيق مدن مستدامة وذكية، من خلال ترشيد استهلاك الطاقة والمياه، وتقليل الهدر والانبعاثات الكربونية، وبناء مجتمعات أكثر مرونة في وجه التغير المناخي.

الخاتمة: من أعتاب الأزمة إلى بوابات المستقبل

ختامًا، تؤكد هذه الرحلة التحليلية من تشخيص واقع الأزمة المظلم إلى استشراف آفاق المستقبل، أن التحديات التي تواجه البنية التحتية العالمية ليست نقاط ضعف دائمة، بل هي نقاط تحول محتملة. لقد كشف الذكاء الاصطناعي عن قدرة غير مسبوقة على تحويل هذه التحديات إلى فرص حقيقية؛ فمن خلال الأدوات التحويلية مثل التحليلات التنبؤية والنماذج الرقمية التوأمية، لم يعد التقادم والتهالك مصيرًا حتميًا، بل أصبحا دافعًا للانتقال من الصيانة التفاعلية الباهظة إلى الإدارة الاستباقية الذكية التي تطيل العمر الافتراضي للأصول وتحول الاستثمارات من إصلاح الأعطال إلى بناء المرونة والكفاءة. كما أنّ الضغوط الخارجية كالنمو السكاني وتغيّر المناخ لم تعد تهديدات فقط، بل أصبحت فرصة لابتكار بنى تحتية قادرة على التكيف الذاتي ومواجهة التحديات بمستوى غير مسبوق من الذكاء.

غير أنّ تحقيق هذه الفرص لا يتحقق بمجرد التقنية وحدها، بل يتطلب تبنى رؤية استباقية واستراتيجية شاملة تضع الذكاء الاصطناعي في صلب سياسات التخطيط والتنمية. فهذا التحول الجذري يحتاج إلى استثمارات واعية في البنية التحتية الرقمية، وأطر تشريعية مرنة تحفز الابتكار مع ضمان الأمن والأخلاقيات، وتغيير ثقافي مؤسسي يجعل الاستباقية والذكاء الاصطناعي جزءًا من نسيج عمل المؤسسات.

ولذلك، فإن الدعوة الأخيرة والأكثر إلحاحًا هي لـصانعي القرار والباحثين والمبتكرين للتعاون في مسار واحد. فالحكومات مدعوة لخلق البيئة التمكينية عبر السياسات والحوافز، والباحثون مطالبون بتوجيه بحوثهم لتطوير حلول تلبي الاحتياجات المحلية، والقطاع الخاص شريك أساسي لاستثمار الطاقات والخبرات. فقط من خلال هذا التعاون يمكننا تسريع وتيرة التحول، وعبور الجسر من مرحلة التشخيص إلى مرحلة البناء، لتحقيق المستقبل الذي نستحقه: مستقبل تكون فيه بنيتنا التحتية ليست مجرد أسمنت وحديد، بل نظامًا عصبيًا ذكيًا يدعم اقتصادًا مزدهرًا ومجتمعات أكثر استدامة ومرونة.

أ.م. د. طلال علي عبدالواسع بشر

  • حاصل على دكتوراه في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية المفتوحة عام 2023.

  • يعمل أستاذًا مساعدًا في الجامعة الأمريكية المفتوحة، ويُدرّس مقررات في إدارة الموارد البشرية والسلوك التنظيمي.

  • شغل مناصب إدارية رفيعة، منها مدير مكتب الزراعة ومدير مكتب المياه والصرف الصحي في مديرية صبر الموادم.

  • له أبحاث علمية محكّمة حول الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال والأمن السيبراني وإدارة الأزمات.

  • ألّف عددًا من الكتب في الإدارة والتسويق الرقمي، من أبرزها 540 مصطلحًا إداريًا واستراتيجية التسويق الرقمي في العصر الحديث.

  • عضو في لجان علمية دولية، منها اللجنة الإعلامية للمؤتمر الدولي للهيئة العالمية للعلماء والباحثين و مركز الضّاد الدولي للتدقيق والتصويب.

  • يمتلك خبرة واسعة في المحاسبة والإدارة وإدارة المشاريع من خلال عمله مع الصندوق الاجتماعي للتنمية والمنظمات الدولية.

  • يتميّز بمهارات عالية في الكتابة والتأليف والابتكار والإقناع.

 

 

حقوق النشر © محفوظة لمركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب حصرًا.

تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا المقال، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان المقال،  تاريخ النشر، الصفحات).

إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.

لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المركز عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternational2021@gmail.com

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *