التفكير الناقد في زمن الذكاء الاصطناعي: صناعة جيل يُبدع ولا يُبرمج
بقلم الدكتورة زينب عجمي
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا في تفاصيل حياتنا اليومية؛ نلمسه في أيدينا ونحن نتصفّح هواتفنا، ونراه يتدخل في أعمالنا ودروسنا وحتى في أبسط اختياراتنا. لم يعد خبرًا عابرًا في الصفحات العلمية، ولا اكتشافًا بعيدًا عن واقعنا، بل رفيقًا يسير معنا خطوة بخطوة: يكمل أفكارنا ونحن نكتب، ويضع أمامنا أجوبة قبل أن نتمّ أسئلتنا. ومع هذا الحضور القوي، يطلّ سؤال يطرق العقل والوجدان معًا: هل نترك أبناءنا أسرى لهذه البرمجة الصامتة، أم نمنحهم أدوات تجعلهم قادةً لهذه الثورة وصانعي مستقبلها؟
ومن هنا يظهر دور التعليم الواعي كميزانٍ يحفظ للإنسان توازنه في عالم يتسارع تغيّره كل يوم. فلم يعد الأمر مجرّد حصص دراسية أو اختبارات شكلية، بل أصبح رسالة تتجاوز جدران الصف لتصوغ هوية أجيال قادمة. فالآلة تستطيع أن تجمع المعلومات وتنتج نصوصًا وصورًا في ثوانٍ، لكنها عاجزة عن أن تمنح الإنسان بصيرة، أو تزرع فيه شغف التساؤل، أو توقظ قدرته على الإبداع. وحده العقل الذي يُنشأ على التفكير الحرّ، ويُدرَّب على النقد والبحث، يستطيع أن يخطّ طريقه بنفسه، وأن يصنع لمعنى وجوده بصمته الخاصة. وهنا تكمن القوة الحقيقية: في إنسان يُربّى ليقود، لا ليُقاد.
بين دهشة التقنية وامتحان الوعي
لا جدال في أن الذكاء الاصطناعي فتح أمامنا آفاقًا واسعة؛ فالطالب بات قادرًا أن ينجز بحثه في دقائق، والطبيب يستعين به للتشخيص المبكر، والباحث يحلّل عبره ملايين البيانات في وقت قياسي. غير أنّ وراء هذا البريق يكمُن ثمن خفي ألا وهو إدمان الحلول السريعة حتى نفقد فضول السؤال ونخسر متعة الاكتشاف. فالطالب الذي يضغط زرًا ليصل إلى الجواب قد يربح وقتًا، لكنه يتنازل في المقابل عن أعظم ما يملكه: قدرته على التفكير المستقل. والعقل الذي يركن إلى الطريق السهل مرارًا، يفقد مع الأيام حيويّته على الإبداع، تمامًا كما تفقد الأرض خصوبتها إذا لم تُسقَ.
فقد أغرقتنا جائحة كورونا بسيول من الأخبار المتناقضة؛ بين دراسات علمية رصينة وخرافات لا أساس لها. أمام هذا الطوفان، وجد كثيرون أنفسهم يصدّقون كل ما يصل إلى هواتفهم، كمسافر أضاع بوصلته وسط العاصفة، بينما اختار آخرون أن يتوقفوا ليتساءلوا: من وراء هذا الخبر؟ ما غايته؟ وأين البرهان؟ هؤلاء الذين استناروا بالتفكير الناقد لم يحصّنوا أنفسهم من التضليل فحسب، بل تحوّلوا إلى منارات تهدي غيرهم، يؤكدون بوعيهم أن النجاة لا تأتي من وفرة المعلومات، بل من حكمة التعامل معها.
حين يصنع السؤال أمة
كلّ وعيٍ عظيم يبدأ بسؤال صغير. قد يطرحه طفل في لحظة فضول عابرة، لكنه إذا استقبل بالتشجيع لا بالرفض، يتحوّل إلى بذرة لعقلٍ يفكّر ويبدع. فالبيت هو الحضن الأول لهذا الوعي؛ فإذا كان الأهل شركاء في الحوار، تكوّن لديه فضول صحي يجعله ناقدًا ومبدعًا في المستقبل، يعلّمه أن السؤال مفتاح للمعرفة، وأن البحث عن الجواب رحلة تصقل عقله وتوسّع أفقه.
وفي المدرسة يكبر السؤال ويأخذ شكله. فالصفّ الذي يُختزل في الحفظ يخرّج أجيالًا مكرّرة، أما الصفّ الذي يتحوّل إلى ساحة للنقاش والمناظرة فيُخرّج قادة ومفكرين. والمعلم الناجح ليس من يقدّم الأجوبة فقط، بل من يعلّم طلابه أن يبحثوا عنها بأنفسهم، أن يقارنوا بين الآراء، وأن يكتشفوا لذّة السؤال قبل لذّة الجواب.
أما الجامعة فهي المرحلة التي ينبغي أن تبلغ فيها الأسئلة نضجها لتتحوّل إلى بحثٍ حرّ. فالطالب الذي يكتفي بتلقّي النظريات كما هي، يبقى أسيرَ حدودها، عاجزًا عن تجاوزها إلى أفق أوسع. بينما الذي يتعلّم أن يقرأ النصوص بوعي ناقد ويعيد النظر في الأفكار لا أن يكرّرها، هو الذي يضيف جديدًا ويعيد صياغة الواقع بفكره. هنا تتحوّل المعرفة من مجرد تراكم معلومات إلى أفقٍ يُبنى باستمرار.
ولأن التربية لا تنحصر في البيت والمدرسة والجامعة وحدها يبقى المجتمع والإعلام القوة الأوسع أثرًا. فإذا انحدر الإعلام إلى السطحية، صنع جيلًا من المتلقين السلبيين؛ أما إذا ارتقى برسالته وبثّ محتوى ملهمًا وواعيًا، أصبح شريكًا في صناعة وعي جماعي يحمي الأجيال من التضليل ويمنحها البصيرة للتمييز بين الحق والزيف.
وهكذا، يولد الوعي من سؤال طفل، يتعزز في البيت، ويتسع في المدرسة، وينضج في الجامعة، ثم يترسخ في المجتمع، ليزهر في النهاية أمةً قادرة على أن تفكّر وتبتكر وتقود.
حين يصبح الذكاء الاصطناعي مرآة لنا
الذكاء الاصطناعي لا يفتح لنا أبواب المستقبل بقدر ما يضعنا وجهًا لوجه أمام حاضرنا. إنه يعكس اختياراتنا اليومية: كيف نبحث، كيف نتعلّم، وكيف نتعامل مع المعلومة. وكأنه يقول لنا: أنتم أصحاب القرار، وأنتم من يحدد الاتجاه. وهنا يكمن الامتحان الحقيقي؛ فإمّا أن يوقفنا عند حدود مألوفة لا تتغيّر، أو نحوله إلى جسر يعبر بنا نحو رؤى أوسع وتجارب أغنى.
وهنا يظهر دور التفكير الناقد، لا كشعار نظري، بل كقدرة حيّة تمكّننا من قراءة ما وراء المعلومة، ومقارنة ما نراه بما نعرفه، وطرح الأسئلة التي تكشف الطريق. فالجيل الذي يملك شجاعة السؤال وشغف الاكتشاف لن يخشى هذه المرآة؛ بل سيحوّلها إلى نافذة يبني من خلالها مستقبله الخاص. وعندها ندرك أن قيمة الإنسان لا تُقاس بسرعة الوصول إلى الإجابة، بل في قدرته على تحويل كل معرفة إلى بصمة فريدة وصوت مختلف يضيف للحياة ما لا يشبهه أحد.
انّ كل ما تقدّم يضعنا أمام سؤالٍ جوهري: كيف نصنع التربية التي تهيّئ أبناءنا لعالمٍ يتشكّل كل يوم؟
فلسنا في سباقٍ مع الذكاء الاصطناعي بقدر ما نحن في سباقٍ مع قدرتنا على أن نحافظ للإنسان على صوته الحرّ وسط هذا الضجيج الرقمي المتسارع. فالتربية اليوم لا تُقاس بما نملأ به العقول من معارف متفرقة، بل بما نغرسه فيها من وعيٍ يجعل أبناءنا قادرين على البحث والتساؤل قبل القبول، وعلى الاختيار قبل الانقياد، وعلى تحويل التقنية إلى وسيلة لخدمة الإنسان لا إلى سلطة تحدد مصيره.
فالتفكير الناقد لم يعد مهارة مكمّلة، بل أصبح أساسًا لا غنى عنه لبقاء الإنسان حاضرًا في صياغة الغد. إنه الحصن الذي يحمي الأجيال من الوقوع في فخّ الحلول السريعة، والدليل الذي يفتح أمامهم آفاق المشاركة الخلّاقة، ويجعلهم شركاء حقيقيين في بناء المستقبل، لا مجرد متلقّين سلبيين لما يُقدَّم لهم.
وإذا كان المستقبل يولد كل يوم من تفاصيل صغيرة وقرارات تبدو عابرة، فإن أعظم قرار يمكن أن نتخذه اليوم هو أن نربّي أبناءنا على حرية الفكر، وجرأة السؤال، ومسؤولية الاختيار. عندها فقط، يمكن لجيلنا أن يواجه التحولات بثقة، وأن يحافظ على إنسانيته في عالمٍ قد يغريه بالتخلي عنها.
ويبقى السؤال الذي يواجهنا جميعًا: هل نرضى بجيلٍ يسير وفق إيقاع تفرضه التكنولوجيا، أم نطمح إلى جيلٍ يبتكر إيقاعه الخاص ويعيد للإنسان مكانه في قلب كل ثورة معرفية؟
الدكتورة زينب عجمي

الدكتورة زينب عماد عجمي
- حاصلة على شهادة الدكتوراه في العلوم التربوية من جامعة القديس يوسف في بيروت (USJ).
- شغلت منصب رئيس قسم الدراسات العليا في كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة الإسلامية في لبنان.
- أستاذة أكاديمية متفرغة ومحاضرة في كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال.
- تتمتع بخبرة إدارية متراكمة، حيث شغلت سابقًا مناصب مثل منسق ورئيس قسم الدراسات العليا وأمينة سر في الكلية ذاتها.
- لدي أبحاث منشورة في مجلات علمية محكمة، وشاركت في العديد من المؤتمرات الدولية.
- عضو سابق في اللجنة التنظيمية لمؤتمر الشرق الأوسط للدراسات المعاصرة.
- عضو في اللجان العلمية لمناقشة رسائل الماجستير، مما يعكس خبرتها في الإشراف الأكاديمي.
- شاركت في إعداد ندوات علمية، أبرزها ندوة حول مهارات التفكير الناقد في المناهج التعليمية.
- عضو سابق في الهيئة العلمية لمجلة مؤشر للدراسات الاستطلاعية.
حقوق النشر © محفوظة لمركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مركز الضاد الدولي للتدقيق والتصويب حصرًا.
تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا المقال، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان المقال، تاريخ النشر، الصفحات).
إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.
لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المركز عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternational2021@gmail.com
![]()

