م. د إيمان كريم جبّار الحريزي/جامعة الكوفة /كليّة التربية للبنات
تُعد سورة التَّكوير ثروة ضخمة من التّعبيرات الأنيقة المنتقاة بشكلٍ فريد؛ لتلوين المشاهد بأساليب مُتعدّدة مختلفة عن الأساليب المعروفة. منها المُستوى الصَّوتي الذي أسهم بشكل كبير في إيضاح المعنى من خلال التّكرار الحكيم الهادف ,وجمال التخييل الحسِّي الذي برهن عليه التَّطابق والتَّضاد والذي ورد في الآيتين :وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18), والفاصلة القرآنية وأهميتها في تمكين المُتلقي من تذوّق سحر المُفردة القرآنيّة.
أمّا الجزء المتعلّق بالبِنية والسِّياق فيكشف عن أهميّة انتقاء الألفاظ ,ومراعاة الفروق الدَّقيقة بينها, والتَّوازن الدقيق بين الذِّكر والحذف, والتَّناسب في البيان القرآني.
وبعد هذه الشَّذرات الإيمانيّة نصلُ إلى أنّ الهدف الأساس للسُّورة، هو الغرض التّربوي؛ لترسيخ الإيمان في القلب، وحسن التَّوكل على الله خالق السَّماوات والأرض، الذي بيده مقاليد الأمور، إذ يقول للشَّيء كُن فيكون. والهدف الآخر: هو تصديق رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلَّم) وأنَّه لا ينطق عن الهوى.
من سمات التّعبير القرآني في البنية الصَّوتيّة (التّطابق والتّضاد)
إذا ما تأملنا إيحاءات التَّصوير القرآني في سورة التّكوير وجدنا أنّ التّضاد يتجلّى بصورة واضحة في قوله تعالى : وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) [التكوير: 17] وبالتحديد في كلمة (عسعس) والتي تعني أقبلَ بظلامِه أو أدبر ( ).فقوله تعالى (والليل): الواو للقسم, والليل اسم مجرور بواو القسم. والجار والمجرور متعلقان بفعلٍ محذوف تقديره (أقسم). و(إذا )ظرف متعلق بفعل القسم. وجملة (عسعس) في محل جر بإضافة الظرف إليها, (والصُّبحُ إذا تنفَّس) عطف على الجملة الأولى( ), وجواب القسم( ) هو قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) حيث أقسم سبحانه و تعالى في الآيات الكريمة على أنَّ القرآن نزل به جبريل (عليه السلام). وأنّ مُحمّدًا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس كما يقول أهل مكة, ذلك أنهّم اتّهموه بالجنون , وما بقولٍ يقولَه من عند نفسه( ).
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) أي أدبر, وقيل: أقبل, وهو من الأضداد( ), وكلا المعنيين حسنٌ. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) أي: إذا أضاء وامتد ضوؤه, يقال: تنفَّس الصُّبح وتنفَّس النَّهار إذا امتدَّ بضوئه, وفي الآيتين استعارة مكنية, فقد شبه (سبحانه وتعالى) الليل بإنسانٍ يُقبل ويُدبر ثم حذف (المشبّه به) وأتى بشيءٍ من لوازمه وهو التنفس أي: خروج النفس من الجوف, وهو تعبيرٌ تدُبُّ فيه الحياة واليقظة الشاملة للكون بعد هدأة الليل, وكأنّه كائنٌ حيٌّ يتنفس بالنور بعدما كانت الطبيعة هادئة لا حياة فيها ولا نفس. حتى لا يكاد يحسّ بها ولا يشعر, فلمّا أقبل الصُّبح صحَا الكون, ودبّت الحياة في أرجائه( ).
أو يقال: إنّه شبّه الليل بالمكروب الحزين الذي حُبس بحيث لا يتحرك, فإذا تنفَّس وجد راحته وهنا لمّا طلع الصبح, فكأنّه تخلَّص من الحزن كليًّا, فعبّر عن ذلك بالتنفس( ).
فبرهنت بذلك الآية المباركة على جمال التخييل الحسِّي في التصوير القرآني عن طريق التشخيص؛ فـ(الليل والصُّبح) بفضل التخييل الحسِّي المشخص ليسا أمرين معنويين مجردين ولا ظاهرتين طبيعيتين, وإنّما هما شخصان حيّان كأيّ شخصين من البشر يأتي الأوّل ( الليل) يعسّ ويمشي في الظلام, ويعقبه الثاني ( الصبح) عند الشروق يبدأ نهاره بالأنفاس العميقة( ).
وتلك الدِّقة في استعمال الألفاظ مكَّنت متدبر القرآن الكريم من أن يعيش الإحساس الموصوف في الآيات إحساسًا قويًّا يجعله يعيش الشّعور وكأنَّ الحدثَ واقعٌ والصورة مرسومة بالفعل أمامه.
ومن سمات التَّعبير القُرآني في البنية والسِّياق (تخيُّر اللفظ)
ممّا لاشكّ فيه أنّ القرآن الكريم ينتقي من الألفاظ الفخمة والجزلة والتي فيها من الإعجاز ما لا يحصى, إذ تبلغ من الكمال مبلغًا أرقى من أنْ تُدركها حواسّ البشر, أو تحيط بها. لكنَّنا نحاول أن نبيّن أهم الجوانب الجماليّة في الخطاب القرآني و نفهم الغاية من وضع كلّ لفظٍ موضعَه واستعماله دون غيره من الألفاظ, لأنّ من ذاق طعم الفصاحة وعرف أسرار الألفاظ أدرك أهميّة انتقائها والتي تكمن في تثبيت المعنى.
والقرآن الكريم أعلى طبقات الكلام وأرفعه “يختار الكلمة الدقيقة المعبّرة ويفضّل الكلمة المصوّرة للمعنى أكمل تصوير, ليشعرك به أتمّ شعورٍ و أقواه حتى تكاد تؤمن بأنَّ هذا المكان كأنّما خلقت له تلك الكلمة بعينها, وأنّ كلمة أخرى لا تستطيع توفيه المعنى الذي وفَّت به أختها” ( ).
ومن دقة التمييز بين معاني الكلمات من أجل أن تؤدي كلّ واحدة منها دورها في القرآن الكريم نجده يُفرّق بين التكوير والطَّي على الرغم من توافق المعنيين؛ إذ نجد مفردة الطَّي تصاحب السِّياق المُتضمّن ذكر السَّماء نحو قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ [الأنبياء من الآية: 103] وقوله: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] .
أمّا لفظة التكوير فنجدها مصاحبة للشمس إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] وربّما يعود ذلك الى طبيعتيهما, فالشمس مكوّرة إذ تتناسب معها لفظة التكوير فاللفظ يرسم الشكل و (كوّرت) لفّت وذهب بضوئها من كوّرت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة والمراد به طويت كطيّ السجل( ) بمعنى اللَّف كما تلفّ العمامة. أمّا السّماء فقد تلقى وتطرح عن فلكها( ) بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسقٍ مناسب للمقصود من نشره فإذا انتهى المقصود طوي المنشور( ).
و إذا أصغينا الى بديع الذكر لاحظنا أنَّ السياق القرآني قد استعمل العِشار تحديدًا من بين أسماء النوق ولم يستعمل أي اسم آخر كالقلوص مثلاً؛ لأنّ العشار هي النوق الحوامل جمع (نفساء) وهي التي أتى على حملها (عشرة أشهر), ثمّ هو اسمها إلى أن تضع إلى تمام السّنة فيستفاد حينئذٍ من مولودها ومن لبنها فهي أثمن ما يكون عند أهلها. أمّا القلوص فهي النوق التي مازالت صغيرة و تبلغ من العمر (تسعة أعوام) فلم تصل بعد الى الأهميّة التي وصلت إليها العشار عند العرب ( ).
“روي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغضَّ بصره فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلمَ لا تنظر إليها فقال: قد نهاني الله عن ذلك( ) ثم تلا : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131]”.